كيفية كسب المعرفة

(1)

في البدء، علينا أن نفرِّق بين المعلومات والمعرفة. فالأولى هي عبارة حقائق لن تزيد فهمك ولن تجعلك أكثر معرفةً، لكنها ستجعلك بأنك أكثر فهمًا، وستعطيك المصطلحات Concepts التي تجعلك تظهر بمظهر الخبير. فالمعلومة هي عبارة عن حقيقة مجرّدة لا تستند الى أيّ شيء داخل العقل (مفهوم سطحي). إنها تشابه في ذلك تلقين طلاب المدارس لقول الأشياء دون فهمها. 

إن ما تكتسبه من قراءتك للكُتب أو دخولك الدورات التدريبيّة ليس بمعرفة. بل هو مجموعة معلومات لن تزيد من إدراكك للمجال الذي تطلّع فيه. فهذه معرفةٌ مشوّهةٌ بحدِّ ذاتها، لا ترقى إلّا أن تكون نصوصًا محفوظة. فلا يعني إطلاعك على النظريات الإقتصاديّة قدرتك على إتخاذ القرارات الحسنة في الإقتصاد. مثلما إنَّ قراءتك لكتب تشرح لك خطط نابليون وتكتيكات رومل لن تجعلك قادرًا على أن تكون مخططـًا ماهرًا.


(2)

إنَّ هذه القراءة والإطلاع لا تدخلنا إلّا الى قشور المواضيع، والوسيلة لكي تغور وتدخل اللب والفهم هي فقط من خلال عيش هذه الأفكار، وتطبيقها وتجربتها.

إنها عمليّة هضم المادة المعرفيّة حتى تغدو جزءًا منك. وإنصهار المدخل الجديد من المعرفة الى هيكل مفاهيمك. فلا يُترك كمعلومة مجردّة في مجالها، بل يلتئم ضمن منظومة فكريّة شاملة، بحيث تكون كل فكرة صغيرة تؤثر على جميع الأفكار الأخرى. فتصبح الفكرة التي تتطلّع عليها في الفلسفة، تؤثر على أفكارك في التجارة، والفكرة التي تتطلع عليها في الإدارة، تؤثر على علاقاتك مع الناس.

هكذا أنت تتشرب المفاهيم، ولا تبقيها كلماتٍ وأفكار من الخارج، بل تعيش معها وتكون ضمنها، فتصبح شيئًا منك. وتصبح الفكرة التي قرأتها في كتاب واحدةً من أفكارك الخاصّة، فتظهر على أسلوب حياتك، وقراراتك المختلفة بشكل طبيعي بدون وعي. حينها ربما تنسى مصدر الفكرة (هل قرأتها في كتاب؟ سمعتها من صديق؟) وتبدأ التفكير فيها وتعديلها كفكرة من أفكارك، وحين تتحدث حول الموضوع المحدد، لن يكون شيئًا مجردًا خارجيًا عنك قرأءته أو سمعته من مكانٍ ما، بل إنك ستتحدث عن شيء خبرته في حياتك وناتج من طرق تفكيرك.

(3)

المعرفة الحقيقيّة براجماتيّة بالضرورة، وهي قوّة تضيف لصاحبها وتؤثر في حياته. وإنَّ أية معرفة لا تؤثر في الشخص ليست بمعرفة. هي عبارة عن معلوماتٍ تبقى داخل الكتب تذكرها خلال الجلسات والنقاشات ومنشورات الفيسبوك، لا تؤثر في الحياة.

لا تجعل من كسب المعرفة هوايةً سلبيّة تفيدك لأجل تعزيز غرورك وشعور التفوّق على الآخرين، والظهور بمظهر العارف. تشرّب المفاهيم وضُمها لحياتك وليكن لك تجربة فيهاSkin in the game  فهذه هي الطريقة التي تضيف لك المعرفة.

ففي النهاية، لن تزداد معرفةً من خلال قراءتك للمزيد من الكتب، ولا من خلال حضورك لدورات تدريبيّة أكثر، بل سيزداد فهمك فقط من خلال التفكير وعيش الأفكار وتجربتها. حينها لن تظهر المعرفة من لسانك بل إنها ستبان في أفعالك وأسلوب حياتك، وهذه أجوّد المعرفة.

"أوضعُ العلمِ ما وقف على اللسان، وأرفعُه ما ظهر في الجوارح والأركان." – الإمام علي

 

(4)

كيفية كسب المعرفة؛ بعض ما قد خبرته.

الغور في الأفكار 

  • عرّض نفسك للمعلومات بشكل أقل فكلما قلّ مقدار المعلومات input، إزدادت عمليّات المعالجة  للمعلومات التي تملكها وبالتالي الفهم. 
  •  لا تتعرَّض لفكرتين في آنٍ واحد، لأنها ستمنعك من التعمّق في الفكرة الواحدة. يستثنى من ذلك كون الفكرتين ضمن مجالين مختلفين تمامًا. بحيث لا تناقض إحداهما الأخرى ولا تمسها. (على سبيل الإطلاع على نظريتين في الإقتصاد في نفس الوقت سيصّعب عليك التمعّن والتعمق في واحدة منهن). 
  •  أختبر أفكارك. إنَّ أفضل الكتب التي تقرأها هي تلك التي تعيش أحداثها، وتراها أمام عينك.

أستفد من نقيض الفكرة من أجل توسيع أفق تفكيرك. 

إنَّ كسب المعرفة بطريقةٍ قويمة يتطلّب منّا تعريض منهجيّة تفكيرنا للنقد. أفضل طريقة لذلك هي فتح الباب أمام الرأي الآخر، ونقيض أفكارنا، ومحاولة الإستفداة منه قدر المستطاع. كل فكرة تعتقد بها لها نقيض من الأسباب والدواعي، شيء من المنطقيّة. حاول ما تعتقد به. أنظر للطرف الآخر بحياديّة تامّة، وحاول فهم الأشياء على حقيقتها ليس كما تريد أن تراه، وما يجامل (الأنا) الخاصّة بك. يجعلك النظر من وجهة نظر النقيض أن ترى الأشياء من أبعادٍ أخرى. أفهم إنك لا يمكن أن تستحوذ على الحقيقة، إنّك تملك جزء منها.

 جرّد نفسك من طموحات التباهي.

إنَّ المعرفة السطحيّة بالأشياء هي نتيجة لتعاطي المعرفة بطريقة تخلو من العمليّة والفاعليّة. معنى ذلك إننا نقرأ للسبب الخطأ، كأن يكون كسب المعلومات أو الإستمتاع أو التباهي (برستيج) وليس للسبب الأهم: الأستفادة وتحسين فهمنا للعالم.
بالنهاية سيبقى غرورنا وميلنا الى أن نكون أفضل من غيرنا بالإضافة الى صعوبة تغيير الأفكار المطبوعة فينا منذ الصغر، والأفكار التي تضعها بيئتنا في أعناقنا دون وعي، تجعل الفهم لأجل الفهم أمرًا صعبًا.

بالنسبة للقراءة

أختر تلك الكتب التي تكتسب منها المزيد كلما قرأتها مرّة أخرى، وأبتعد عن الكتب البسيطة والسطحيّة. أقرأ بتمعّن وحرص، وتعمّق، قراءة كتاب جيّد ثلاث مرّات وفهمه جيدًا، أفضل لك من قراءة ثلاثة كتب مختلفة لن يكون بإمكانك هضمها جيدًا. ولهذا السبب تصبح أفضل الكتب التي كتبت غير مؤثرة علينا، ولا تغيّر فينا، ذلك إننا لا نستوعبها تمامًا. فحتى لو فهمت المقصود في الكتاب يجب أن يتغلغل الى مفاهيمك وعقلك حتى تستطيع أن تفهم وجهة نظر الكاتب وتتشرَّب بها. حينها ستتمكَّن من النظر للأمور بعين الفكرة التي يكتبها الكاتب، ويمكنك أن ترى الحياة من وجهة النظر التي يقترحها الكاتب.

 

"لا تقُل أبدًا إني فيلسوف، ولا تُكثر الحديث بين الجُهَّال عن نظرياتك، بل بيِّنها بالأفعال [...] وعلى ذلك، فإذا ما دار أيُّ حديثٍ بين الجُهَّال حول أيِّ نظرياتٍ فلسفيةٍ، فالزَمِ الصمتَ دائمًا، فثمَّة خطرٌ كبيرٌ بأن تقيء في الحال ما لم تهضمه، [...] ذلك أنَّه حتى الخِرافُ لا تقيء عُشبَها لكي تُري الرعاة كم أكلت، بل عندما تهضم الكلأ داخلها فإنها تُخرجه صوفًا ولبنًا، أنت أيضًا لا تُظهر النظريات للجُهَّال، بل الأفعال الناتجة عن النظريات بعد أن يتم هضمها" - أبكتيتوس

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفائدة الأكبر للقراءة

تدوينات رجل مبيعات